المسائلة النظامية في السوق المالية السعودية

19 أغسطس, 2025

المقدمة

في النظام الرقابي للسوق المالية السعودية، لم تعد مساءلة المسؤولين مرتبطة فقط بالقصد الجنائي أو التعمد، بل أصبحت المسؤولية النظامية أكثر شمولاً وتوسعاً لتشمل التقصير أو التقاعس في أداء الواجبات. هذا التحول نتج عن الحاجة للانتقال من الرقابة الشكلية التي تعتمد على إثبات القصد، إلى رقابة استباقية تهدف إلى الوقاية المبكرة من المخالفات قبل وقوعها أو تفاقمها. ومع ذلك، تبقى هناك فجوة بين الواقع العملي للانتهاكات، وبين التكييف القانوني الدقيق للمسؤولية النظامية، الأمر الذي يستوجب تدقيقاً منهجياً لكل فئة من المسؤولين، بدءاً بالرؤساء التنفيذيين، مروراً بأعضاء مجلس الإدارة، وصولاً إلى كبار المستثمرين والمساهمين المؤثرين، لفهم أبعاد المسؤولية وتطبيق الحلول المناسبة لكل حالة.

وفي ضوء هذا التحول، يسعى هذا البحث إلى تحليل أبعاد المسؤولية النظامية على مستويات الإدارة التنفيذية، والرقابة الداخلية، وموقع كبار المستثمرين ضمن هذه المنظومة.

الفصل الأول: الرؤساء التنفيذيون في مرمى المساءلة النظامية

في هيكل الشركات المدرجة، يشغل الرؤساء التنفيذيون مواقع مركزية تتمثل في عدة مناصب رئيسية تشمل الرئيس التنفيذي (CEO) المسؤول الأعلى عن قيادة الشركة ووضع الاستراتيجية العامة وضمان تنفيذ سياسات مجلس الإدارة، والمدير المالي (CFO) الذي يتولى الإدارة المالية وإعداد التقارير المالية ومراقبة التدفقات النقدية وضمان الالتزام بالمعايير المحاسبية، بالإضافة إلى مدير العمليات (COO) المسؤول عن العمليات اليومية وتحسين الكفاءة التشغيلية وتنفيذ الخطط الاستراتيجية.

يمتد دور هؤلاء المسؤولين التنفيذيين إلى ما هو أبعد من تنفيذ الخطط الاستراتيجية المعتمدة، ليشمل ضمان التزام الشركة بالأنظمة والقوانين المعمول بها، والتقيد بالشفافية في الإفصاح المالي. وفقاً للأنظمة المحلية والدولية، يقع على عاتقهم واجب رقابي داخلي وقانوني صارم يتطلب مراقبة وتوجيه العمليات التنفيذية بما يتوافق مع التشريعات والمعايير المهنية. كما تتحمل هذه الفئة مسؤولية حماية مصالح المساهمين والجمهور المستثمر، ويترتب على أي تقصير أو تقاعس منهم عواقب قانونية مباشرة، حتى في غياب القصد الإجرامي.

المشكلة الأولى: إصدار أوامر تنفيذية مخالفة للوائح

الوصف: إصدار أوامر شراء/بيع في توقيت مريب – المشاركة في نشر إفصاحات خاطئة أو متأخرة

تعد الأوامر التنفيذية التي تصدر في توقيتات غير قانونية، مثل فترات الحظر على التداول (Blackout Periods)، من أبرز الانتهاكات التي تخلّ بنزاهة السوق وشفافيته. هذه التصرفات تؤدي إلى خلق فرص غير عادلة لبعض الأطراف على حساب المستثمرين الآخرين، مما يسبب تقلبات غير مبررة في أسعار الأسهم وتشويشاً في القرارات الاستثمارية. علاوة على ذلك، المشاركة في نشر إفصاحات مالية خاطئة أو متأخرة تؤدي إلى تضليل المستثمرين وعدم تمكينهم من اتخاذ قرارات استثمارية سليمة مبنية على معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب. ضعف الإفصاح يضر بسمعة الشركة ويقلل من ثقة السوق بأداء ومسؤولية الإدارة.

الحلول والتدابير الوقائية:

  • وضع سياسات تداول داخلية صارمة تحدد بوضوح فترات الحظر على التداول، مع تدريب دوري لجميع التنفيذيين على الالتزام بها
  • تعزيز آليات المراجعة والمصادقة على الإفصاحات المالية قبل نشرها لضمان دقتها وموعدها الصحيح
  • إرساء نظام رقابة داخلية فعال يمكن من رصد أي تجاوزات أو مخالفات في الوقت الفعلي
  • تطبيق برامج توعية قانونية وتنظيمية لجميع المسؤولين التنفيذيين لتعزيز فهمهم بمسؤولياتهم النظامية

كيفية تعامل النظام السعودي:

تُعد هيئة السوق المالية في السعودية الجهة الرقابية المخولة بمراقبة الالتزام بالأنظمة، وقد أصدرت عدة قرارات وعقوبات ضد المخالفين لهذا النوع من السلوك، تشمل:

  • فرض غرامات مالية على المسؤولين التنفيذيين الذين يثبت تورطهم في إصدار أوامر تداول في أوقات ممنوعة أو المشاركة في إفصاحات غير دقيقة
  • إيقاف مؤقت أو دائم من مزاولة أنشطة التداول أو المناصب التنفيذية
  • إلزام الشركات بتحديث سياسات الحوكمة والامتثال، ووضع آليات رقابة داخلية أفضل
  • إلزام الشركات بنشر تقارير تصحيحية وشفافية إضافية لتعويض المستثمرين عن المعلومات الخاطئة أو المتأخرة

قضايا واقعية من السوق المالية السعودية:

  1. قضية إصدار أوامر تداول خلال فترة الحظر: في عام 2018، رصدت هيئة السوق المالية قيام مسؤول تنفيذي بإصدار أوامر شراء وبيع للأسهم خلال فترة الحظر المفروضة على التداول التي تسبق صدور البيانات المالية الفصلية، مما أدى إلى تحركات سعرية غير مبررة في السوق. القرار: فرضت الهيئة غرامة مالية على المسؤول التنفيذي، وأوقفته مؤقتاً عن ممارسة بعض الأنشطة المتعلقة بالتداول، كما ألزمت الشركة بتحديث سياسات التداول الداخلية. المصدر: قرار هيئة السوق المالية رقم (49-2018)
  2. قضية إفصاحات متأخرة وخاطئة: في عام 2019، ثبت قيام أحد التنفيذيين بالمشاركة في نشر إفصاحات مالية متأخرة تضمنت أخطاء جوهرية، مما أدى إلى تضليل المستثمرين وتأخير اتخاذ القرارات الاستثمارية المناسبة. القرار: فرضت الهيئة عقوبات مالية وإدارية على المسؤول التنفيذي، وطالبت الشركة بتعزيز نظم الإفصاح وتحسين دقة البيانات المالية. المصدر: تقرير الهيئة السنوي للرقابة على السوق المالية 2019

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • إثبات أن توقيت إصدار الأوامر تم بناءً على نظام آلي وليس قرار يدوي شخصي
  • تقديم دليل أن الأمر صدر من موظف آخر مفوض بالتنفيذ، دون علمه المباشر
  • إثبات أن المعلومة الجوهرية (أو فترة الحظر) لم تكن قد بدأت فعلياً وقت التنفيذ
  • عرض رسائل أو مذكرات داخلية توضح أنه اعتمد على تقويم داخلي خاطئ أو غير محدث حُددت فيه فترات التداول المسموح بها
  • الدفع بأن الإفصاح المتأخر أو الخاطئ لم يكن تحت مسؤوليته، بل مسؤولية إدارة العلاقات أو المالية، مع تقديم ما يثبت ذلك هيكلياً

المشكلة الثانية: إساءة استخدام المعلومات الداخلية

مشكلة نظامية تهدد عدالة السوق

يشمل هذا النوع من الانتهاك حالتين رئيسيتين:

  1. التداول السابق للإفصاح الرسمي بفترة زمنية حرجة (Insider Trading): وهو أن يقوم مسؤول تنفيذي أو مطلع في الشركة بالتداول (بيعاً أو شراءً) في أسهم الشركة أو أسهم شركات تربطه بها علاقة، اعتماداً على معلومات جوهرية لم يتم الإفصاح عنها علناً بعد، مثل نتائج مالية سلبية، أو عقود ضخمة، أو استقالات مهمة
  2. تنفيذ قرارات بناءً على معلومات داخلية غير معتمدة: أي أن يتم اتخاذ قرارات بيع أو شراء أو توصية استثمارية داخلية دون أن تمر بالهيكل الرسمي المعتمد، أو اعتماد تلك المعلومات في التحليل أو التعامل قبل أن تكتمل داخلياً وتُعلن رسمياً، مما يسبب تضليلاً للسوق وتفاوتاً في المعرفة

الحلول والتدابير الوقائية:

  1. تطبيق نظام الإفصاح العادل (Fair Disclosure): الذي يفرض على الشركات إعلان أي معلومة جوهرية فور توافرها، وعدم مشاركتها مع فئة دون أخرى
  2. تقييد تداول المطلعين: من خلال تحديد فترات الحظر على التداول، وإلزام المطلعين بالإفصاح عن أي صفقة يقومون بها
  3. نظام رقابة داخلية يضمن تتبع تدفق المعلومات: وتوثيق من وصلته المعلومة الجوهرية وتاريخ وصولها
  4. تدريب المسؤولين التنفيذيين والمستثمرين الكبار على مفهوم “المعلومة الجوهرية” والتمييز بين المعلومة المحاسبية العادية والمعلومة المؤثرة على قرار الاستثمار

تعامل النظام السعودي:

هيئة السوق المالية السعودية تعاملت بصرامة مع حالات من هذا النوع، وأبرز ما اتخذته من إجراءات:

قضية 2023 – التداول بناءً على معلومات داخلية في شركة مدرجة:

القرار: أعلنت هيئة السوق المالية بتاريخ 23/8/2023 عن صدور قرار من لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية بإدانة أحد المستثمرين بتهمة التداول بناءً على معلومات داخلية تتعلق بأداء شركة مدرجة قبل الإفصاح عنها رسمياً.

العقوبات:

  • غرامة مالية بلغت (500,000) ريال
  • إلزام المخالف برد المكاسب المحققة من التداول، وقدرها أكثر من (800,000) ريال
  • حرمانه من التداول في السوق لمدة 3 سنوات

المصدر: هيئة السوق المالية – إعلان رسمي

الأثر القانوني والاقتصادي:

  • انعدام تكافؤ الفرص بين المستثمرين، ما يضعف الثقة العامة في السوق المالية
  • تلاعب مباشر أو غير مباشر في سعر السهم وحجم تداوله
  • انخفاض مصداقية الشركة ومخاطر قانونية تجاه إدارتها التنفيذية
  • هروب المستثمرين الأجانب والمحليين نتيجة ضعف الشفافية

قضية سابقة في 2021 – مسؤول تنفيذي تداول بمعلومة داخلية قبل إعلان الاستقالة:

الوضع: قام مسؤول تنفيذي بشراء كمية كبيرة من أسهم الشركة قبل إعلان استقالته العلنية، مستفيداً من علمه بتأثير الاستقالة على السعر.

العقوبة: غرامة، رد المكاسب، والمنع من العمل في الشركات المدرجة لفترة محددة.

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • إثبات أن قرار الشراء أو البيع كان مبنياً على خطة تداول مجدولة مسبقاً (Pre-scheduled plan) وليس بسبب معلومة غير معلنة
  • تقديم ما يُثبت أنه لم يكن مطلعاً على المعلومة الجوهرية وقت التنفيذ، أو أنه لم تُعرض عليه بصيغة واضحة ومكتوبة
  • الدفع بأن المعلومة لم تكن مكتملة أو مؤكدة بعد داخلياً، وبالتالي لم تدخل نطاق “المعلومة الجوهرية” النظامية
  • إرفاق دليل على أن التداول تم من خلال مدير محفظة مستقل دون توجيه منه
  • نفي العلاقة الزمنية المباشرة بين التداول والمعلومة الجوهرية، مع تقديم جدول زمني يدعم ذلك

المشكلة الثالثة: التقاعس عن رصد مخالفات الموظفين

مسؤولية الصمت وتجاهل الواجب الرقابي

يشمل التقاعس عن رصد المخالفات قيام الرئيس التنفيذي أو التنفيذيين المعنيين بالصمت، أو الامتناع عن اتخاذ إجراء نظامي، عند ظهور سلوكيات غير قانونية أو مشبوهة من موظفين أو فرق تابعة لهم. من أبرز صور هذه المشكلة:

  • عدم الاعتراض على سلوك استثماري مشبوه ضمن الفريق، كتمرير أوامر تداول غير مفسرة أو مضاربة على معلومات غير معلنة
  • الصمت عن التحركات غير النظامية في التداول أو الافصاح، كعمليات الإفصاح المتأخرة أو إصدار بيانات مالية بدون مراجعة دقيقة

هذا النوع من التقاعس لا يُعد مجرد تقصير إداري، بل يُصنف في ظل أنظمة السوق المالية السعودية كإخلال بواجب الرقابة والإشراف، ويؤسس لمسؤولية نظامية حتى في غياب القصد الجنائي المباشر، وذلك عملاً بمبدأ “المسؤولية بسبب المركز الوظيفي”.

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • تقديم ما يُثبت أن الموظف المخالف لم يُبلّغ عنه بأي وسيلة نظامية، ولم يُقدم بشأنه تقرير رسمي
  • إثبات أنه أنشأ مسبقاً مساراً للتبليغ الداخلي، وأن الخطأ كان في جهة الامتثال أو المراجعة، وليس بسبب تقصيره
  • إبراز رسائل سابقة أو ملاحظات تثبت أنه حذّر أو نبّه بشأن المخالفة، لكن القرار النهائي لم يكن بيده
  • الدفع بأن طبيعة المخالفة لم تكن واضحة أو معلنة وقت حدوثها، وإنما اكتُشفت لاحقاً بمراجعة خارجية
  • عرض هيكل الشركة الداخلي وتحديد من كان يملك الصلاحية الرقابية المباشرة على الموظف المخالف

نماذج واقعية من السوق السعودية:

قضية إحدى شركات التطوير العقاري المدرجة (2022): صدر قرار من هيئة السوق المالية ضد رئيس تنفيذي لم يتخذ أي إجراء تجاه قيام أحد مديري الإدارات بتنفيذ عمليات تداول بناءً على معلومات غير مفصح عنها بخصوص بيع أصول عقارية كبرى، رغم علمه المسبق بذلك. لم يبلّغ عن الواقعة، ولم يقم بأي إجراء لمنع وقوع المخالفة.

المصدر: قرار لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية رقم 3116/ل/2022 الصادر بتاريخ 1/5/1444هـ

شركة خدمات مالية (2021): قام مدير تنفيذي مالي بصرف مكافآت لموظفين مقربين، رغم ورود تنبيه من إدارة التدقيق الداخلي حول عدم نظامية هذه المصروفات. لم يُبدِ أي اعتراض أو يرفع الأمر لمجلس الإدارة، مما اعتُبر “صمتاً إدارياً مقصوداً”.

المصدر: هيئة السوق المالية – سجل العقوبات الإدارية المنشور في 2021م

التكييف النظامي ومعالجة النظام السعودي:

تعامل النظام السعودي، ممثلاً في هيئة السوق المالية، مع هذه المشكلة بعدة وسائل:

  1. تحميل التنفيذي مسؤولية الرقابة: تفرض المادة (56) من “قواعد طرح الأوراق المالية والالتزامات المستمرة” على كبار التنفيذيين مسؤولية التحقق من التزام الشركة بمتطلبات الإفصاح والحوكمة، وعدم السماح بوقوع مخالفة من موظفيهم
  2. إقرار مبدأ “السكوت المُحاسب عليه” عند توفر قرائن على علم التنفيذي بوجود مخالفة دون اتخاذ إجراء، فإن مجرد السكوت يُعد مخالفة بحد ذاته، حتى لو لم يكن هو المرتكب الأصلي للفعل
  3. المساءلة التأديبية والمدنية: أحالت الهيئة عدداً من الحالات إلى لجنة الفصل، وأصدرت اللجنة غرامات تصل إلى 500 ألف ريال في حالات السكوت عن تداولات داخلية أو مخالفات في الصرف
  4. الحوكمة الوقائية: أوصت الهيئة الشركات بوضع آليات داخلية لرصد تصرفات الموظفين، وتمكين إدارات المراجعة من رفع تقاريرها مباشرة إلى اللجان الرقابية دون تدخل تنفيذي

الحلول والتدابير الوقائية:

  • إنشاء سجل رقابي داخلي يرصد قرارات جميع الإدارات التشغيلية، ويربطها بآليات مراجعة قانونية
  • فرض تدريب إلزامي على المسؤولين التنفيذيين حول التزاماتهم النظامية كـ “ضامنين للامتثال”، وتحديثه دورياً
  • تعزيز قوة لجان المراجعة والمخاطر لتمتلك صلاحيات مستقلة ومباشرة على كافة المستويات

المشكلة الرابعة: عدم التقيّد بالكشف المالي والرقابة الداخلية

وصف المخالفة ومشكلتها النظامية:

تُعد الرقابة المالية الداخلية ركيزة رئيسية في النظام المحاسبي والحوكمي لأي شركة مساهمة مدرجة، ويقع على عاتق كبار التنفيذيين – تحديداً الرئيس التنفيذي والمدير المالي – الالتزام التام بنتائج الرقابة ومؤشرات الإفصاح.

وتتجسد هذه المخالفة في حالتين جوهريتين:

  1. أخطاء في إعداد القوائم أو التقارير المالية، سواء نتيجة إهمال أو تعمد، مما يؤدي إلى تضليل المساهمين والجهات الرقابية
  2. تجاهل نتائج نشاط تفتيش داخلي أو مراجعة فنية، مثل التقارير الصادرة من إدارة التدقيق الداخلي أو لجنة المراجعة، وعدم اتخاذ إجراءات تصحيحية

هذه المشكلة لا تتعلق فقط بالإفصاح الناقص، بل بتعطيل المنظومة الرقابية، والتسبب بخداع مالي ممنهج قد تتسع آثاره ليطال المساهمين وصحة السوق المالية.

التكييف النظامي ومعالجة النظام السعودي لها:

  • نصت المادة 56 من قواعد التسجيل والإدراج الصادرة عن هيئة السوق المالية على التزام المصدر بالإفصاح الدقيق عن القوائم المالية والأحداث الجوهرية التي تؤثر في المركز المالي
  • كما أوجب نظام الشركات الجديد (2022) في مادته (102) التزام المديرين التنفيذيين بالحفاظ على دفاتر محاسبية منتظمة وإعداد القوائم وفق المعايير
  • وتعتبر هذه المخالفة خرقاً لواجب الإفصاح والشفافية، وتخضع لتوصيف مخالفة جوهرية تؤثر على قرار المستثمر حسب تصنيف هيئة السوق المالية

النماذج الواقعية من السوق السعودية:

قضية ش.خ (2018): ثبت تأخر الشركة في إعداد قوائمها المالية لعدة فصول، ووجود قصور جوهري في أنظمة الرقابة الداخلية، مما أدى إلى تعليق تداول السهم وتكبّد السوق والمستثمرين خسائر ضخمة.

العقوبات النظامية المحتملة:

  • غرامات مالية تصل إلى 100 ألف ريال عن كل مخالفة إفصاح، وتضاعف عند التكرار (لائحة سلوكيات السوق، المادة 55)
  • الحرمان من العمل في الشركات المساهمة المدرجة، خاصة للمدير المالي أو التنفيذي المتسبب
  • المساءلة المدنية أمام لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية، مع إمكانية المطالبة بالتعويض من قبل المساهمين المتضررين
  • في بعض الحالات، قد تتحول القضية إلى اشتباه جنائي في حال وجود قصد تضليل أو تزوير

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • تقديم ما يثبت أن القوائم المالية أو التقارير أعدتها جهة خارجية (مراجع قانوني)، وتم اعتمادها دون وجود تحفظ
  • إثبات أن التقارير المالية مرت عبر عدة مستويات مراجعة ولم يظهر أي تنبيه أو اعتراض رسمي
  • الدفع بأن المهام المحاسبية والتقارير كانت من اختصاص المدير المالي، وأن دوره كان إشرافياً فقط دون تدخل في التفاصيل الفنية
  • إبراز تاريخه المهني مع التقارير السابقة، لإثبات أن المخالفة الحالية كانت استثناءً لا نمطاً
  • إرفاق الأدلة على أن أنظمة الرقابة الداخلية كانت قائمة، لكن تم تجاوزها دون علمه أو بمخالفة داخلية لم يُبلّغ بها

الحلول والتدابير الوقائية:

  • إنشاء نظام رقابة داخلية مستقل يرتبط مباشرة بلجنة المراجعة دون تدخل من الرئيس التنفيذي
  • إلزام المدير المالي بإعداد تقرير إفصاح شهري داخلي يتم رفعه لمجلس الإدارة
  • اعتماد مراجعة مزدوجة للقوائم المالية من طرفين مستقلين (داخلي وخارجي)
  • تطوير برنامج إبلاغ داخلي محمي يسمح للمحاسبين بالإبلاغ عن أي مخالفات أو تلاعب دون خوف من انتقام وظيفي

الأثر القانوني والاقتصادي:

  • تؤدي هذه المخالفة إلى تراجع ثقة المستثمرين، وتذبذب سعر السهم بشكل حاد، ورفع مستوى الخطر النظامي على الشركة
  • على المدى البعيد، تضر بسمعة السوق السعودية وتجعل الشركات عرضة للرقابة الدولية
  • قانونياً، تفتح باب المطالبة بالتعويض الجماعي، خاصة في حال تسبب الخطأ في خسائر للمساهمين أو تداول مبني على معلومات غير صحيحة

غياب آلية الدفاع النظامي داخل الشركة وأثره على المسؤولية النظامية للرؤساء التنفيذيين

توصيف المشكلة:

تُعد آلية الدفاع النظامي (Legal Defense Mechanism) أحد أهم أدوات الحوكمة الداخلية، وتتمثل في وجود سياسات وإجراءات قانونية واضحة داخل الشركة تهدف إلى:

  • منع ارتكاب المخالفات النظامية
  • رصد التجاوزات فور وقوعها
  • تمكين الإدارة التنفيذية من اتخاذ الإجراءات التصحيحية دون تأخير

غياب هذه الآلية، سواء من خلال غموض السياسات الداخلية أو ضعف التنسيق بين الإدارات التنفيذية والقانونية، يؤدي إلى فجوات رقابية تهدد سلامة الشركة قانونياً، وتُضاعف من المخاطر التي يواجهها الرؤساء التنفيذيون، الذين يُفترض بهم – بحسب مسؤولياتهم – اكتشاف هذه المخالفات ومنعها.

الآثار القانونية المترتبة على غياب هذه الآلية:

  1. تحميل التنفيذيين المسؤولية النظامية عن تقصير لم يرتكبوه مباشرة في حال عدم وجود سياسات داخلية مكتوبة توضح آلية التعامل مع الإفصاحات، أو الأوامر الداخلية، أو تنفيذ قرارات مجلس الإدارة، يصبح الرئيس التنفيذي عُرضة للمساءلة في حال وقوع المخالفة، حتى إن لم يكن هو من أمر بها
  2. صعوبة إثبات “حسن النية” أو “عدم العلم”: كثير من قرارات لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية رفضت الاكتفاء بادعاء عدم العلم، وألزمت التنفيذيين بالإثبات الفعلي لقيامهم بواجبات الرقابة، وهو ما يستلزم وجود سياسات دفاع نظامي موثقة
  3. إضعاف دور الإدارات القانونية والمخاطر: غياب هذه الآلية يعني أن الإدارات القانونية تصبح استشارية فقط، لا رقابية، مما يفقد الشركة قدرتها على الوقاية الاستباقية من المخالفات

الفصل الثاني: أعضاء مجلس الإدارة: المسؤولية الجماعية لا تعفي من المسؤولية الفردية

رغم الطابع الجماعي لقرارات مجلس الإدارة، فإن كل عضو يتحمل مسؤولية فردية مستقلة في أداء دوره الإشرافي، سواء على السياسات المالية أو الإدارية أو الالتزام بالأنظمة واللوائح. وتُعد هذه المسؤولية ذات طابع شخصي لا تُعفى بالتصويت الجماعي أو بالصمت، وقد ثبت ذلك في عدة قرارات صادرة عن هيئة السوق المالية ولجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية، حيث وُجهت مسؤولية فردية لأعضاء مجلس إدارة رغم عدم وجود دور تنفيذي مباشر.

على سبيل المثال، أصدرت لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية قرارها رقم (2829/2023/ل.ف/ج.س) بتاريخ 20/01/1445هـ، بتغريم عضو مجلس إدارة إحدى الشركات المدرجة مبلغ 200 ألف ريال، بسبب فشله في الاعتراض على قرار مالي اتضح لاحقاً أنه ينطوي على مخالفة جوهرية لنظام السوق المالية، رغم حضوره للاجتماع وعدم تسجيل أي تحفظ.

المشكلة الأولى: المشاركة في قرارات تنطوي على تعارض مصالح

الوصف: حصص شخصية أو عائلية تؤثر على قرارات المجلس – عدم الإبلاغ عند اتخاذ قرارات مؤثرة – خلو المحاضر من ذكر التحفظ الشخصي

تعارض المصالح من أبرز التحديات التي تواجه استقلالية القرار داخل مجالس الإدارة، خصوصاً عند وجود حصص شخصية أو عائلية تؤثر على مسار التصويت أو التوصية، دون الإفصاح النظامي أو تسجيل التحفظات بمحاضر الاجتماعات. وقد تتسبب مثل هذه الممارسات في التأثير على مصالح الشركة أو صغار المساهمين بشكل مباشر.

مثال واقعي: في قرار لجنة الفصل رقم (2146/2022/ل.ف/ج.س) ضد أحد أعضاء مجلس إدارة شركة مدرجة، ثبت أنه شارك في اتخاذ قرار تعاقد تجاري مع جهة تربطه بها علاقة عائلية من الدرجة الأولى، دون الإفصاح عن العلاقة أو التنحي عن التصويت، وهو ما اعتبر مخالفة صريحة للمادة (43) من قواعد طرح الأوراق المالية، وأدى إلى فرض غرامة تجاوزت 300 ألف ريال.

الحل والتعامل النظامي: ألزمت هيئة السوق الشركات بإفصاح فوري عن أي حالة تعارض مصالح عبر “نموذج الإفصاح عن الأطراف ذوي العلاقة”، وتحديث سياسة الإفصاح الداخلي، مع توقيع كل عضو على بيان عدم وجود تعارض دورياً. ويُعد تجاهل هذه الإجراءات سبباً كافياً لتحريك الدعوى العامة ضد العضو المخالف.

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • إثبات أنه لم يكن على علم بالعلاقة محل التعارض (مثل: أن الجهة المتعاقد معها لم تكن مكشوفة الهوية وقت التصويت)
  • تقديم ما يُثبت عدم استفادته الشخصية أو العائلية من القرار
  • إذا حضر الاجتماع، يُثبت أنه لم يصوّت، أو أنه تحفظ شفوياً حتى وإن لم يُوثق في المحضر — مع طلب تعديل المحضر لاحقاً
  • إبراز محاضر أو رسائل داخلية تؤكد أن التعارض لم يُطرح للنقاش، مما ينفي العلم المفترض
  • الدفع بأن الإفصاح كان من اختصاص عضو آخر أو جهة تنفيذية، وليس من مسؤوليته المباشرة

المشكلة الثانية: الموافقة على إفصاحات دون مراجعة كافية

الوصف: نشر بيانات مالية أو إعلانات جوهرية دون الاطلاع الكامل – عدم الاعتراض عند وجود تناقضات في المعلومات

عندما يقرّ مجلس الإدارة نشر إفصاحات جوهرية أو بيانات مالية دون الاطلاع الكافي أو التحقق من دقتها، فإن ذلك يعرضهم للمساءلة. هذه الموافقة الشكلية تُعد تقصيراً في الالتزام الرقابي، حتى لو لم يكن العضو هو المعدّ للمحتوى.

مثال واقعي: في 2021، أصدرت لجنة الفصل قرارها (1543/2021/ل.ف/ج.س) ضد عضوين بمجلس إدارة شركة مدرجة، لملاحظتهما تناقضاً بين البيانات المالية المرسلة إلى الهيئة والبيانات المقدمة للمراجعة الداخلية، دون أن يُبديا أي اعتراض رسمي. وفرضت اللجنة عليهما غرامة إجمالية تجاوزت 400 ألف ريال، بعد ثبوت موافقتهما على نشر الإفصاح الخاطئ.

الحل: يفترض على أعضاء المجلس التأكد من وجود لجنة مراجعة فعالة، ومراجعة محاضرها قبل اعتماد البيانات المالية، وإبداء التحفظ كتابةً عند وجود خلل. كما توصي هيئة السوق بإجراء دورات تدريبية دورية لأعضاء المجلس في آليات المراجعة.

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • إثبات أن الإفصاح جاء بتوصية من لجنة المراجعة، وأنه اعتمد بناءً على رأي الجهة المختصة
  • إبراز مراسلات داخلية تُظهر أنه طلب التحقق أو طرح استفسارات بشأن الإفصاح
  • الدفع بأن العرض المقدم للاجتماع كان ناقصاً أو اختُصر عمداً من الإدارة التنفيذية
  • إثبات أن الموافقة تمت بناءً على نموذج عرض موحد أو بصيغة “عدم ممانعة”، وليس بتصويت مباشر
  • الإشارة إلى أنه لم يتلقَّ أي تحفظ من المراجع الخارجي، ما جعله يعتقد بصحة المعلومات

المشكلة الثالثة: التغاضي عن تجاوزات تنفيذية تحت إشراف غير مباشر

الوصف: تنفيذ قرارات تداول أو تشكيل محافظ دون مراجعة – قبول أوجه صرف أو تعاقد دون ما يدعو لمراجعتها

يتحمل مجلس الإدارة مسؤولية غير مباشرة عن قرارات تنفيذية مشبوهة، خصوصاً عند عدم وجود مراجعة أو تحقق دوري من تلك القرارات، مثل تشكيل محافظ استثمارية دون موافقة أو مراجعة لاحقة من المجلس.

مثال واقعي: في قضية شهيرة عام 2022، ثبت أن أحد أعضاء مجلس إدارة شركة استثمارية كبرى، تجاهل تقارير المراجعة التي أظهرت أن المدير التنفيذي قام بإعادة هيكلة محفظة استثمارية بقيمة 70 مليون ريال دون إشراف المجلس. رغم علمه بالمخالفة، لم يسجل اعتراضه. فصدر بحقه قرار لجنة الفصل رقم (1762/2022/ل.ف/ج.س) بغرامة مالية 250 ألف ريال وإيقافه عن العمل لمدة سنة.

الحل: يتعين على المجلس تشكيل لجان دائمة تشمل “لجنة الاستثمار” و”لجنة الحوكمة”، وأن ترفع تقارير مباشرة للمجلس. كما يجب تسجيل أي تحفظ من الأعضاء بمحاضر الاجتماعات حماية لهم من المسؤولية الفردية.

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • توضيح أن صلاحيات التنفيذ والتفويض محددة في اللوائح الداخلية، وأن القرار لم يُعرض عليه ولم يكن في نطاق إشرافه المباشر
  • إثبات أنه لم يتلقَّ تقارير أو ملاحظات من اللجان المختصة، ولم يعلم فعلياً بالمخالفة
  • الدفع بأن التجاوز لم يكن ظاهراً وقت حدوثه، ولم يُثار إلا بعد مراجعة لاحقة
  • استخدام محاضر الاجتماعات السابقة لإثبات أنه لم يُناقش الأمر إطلاقاً
  • تحميل مسؤولية الرقابة على الجهة المختصة (مثلاً: لجنة المخاطر أو الاستثمار)

المشكلة الرابعة: عدم التثبت من الحوكمة الداخلية وأدواتها

الوصف: غياب سياسات للمحافظة على تداول المسؤولين – عدم مراجعة مخالفات الإدارات الفرعية

غياب السياسات المكتوبة بشأن تداول المطلعين، أو عدم مراجعة تقارير المخالفات الداخلية، يُعد تقصيراً جسيماً من مجلس الإدارة. فالحوكمة ليست مجرد هيكل تنظيمي، بل منظومة وقائية تضمن النزاهة والشفافية.

مثال واقعي: في قرار لجنة الفصل رقم (2879/2023/ل.ف/ج.س)، أُدين مجلس إدارة إحدى الشركات المدرجة بسبب فشله في ضبط عمليات تداول داخلية تمت خلال فترة الحظر النظامي من قِبل كبار التنفيذيين. وأشار القرار إلى أن مجلس الإدارة لم يُحدث سياسات الرقابة الداخلية منذ ثلاث سنوات، رغم تغيّر اللوائح.

الحل: ألزمت الهيئة جميع الشركات بتحديث سياسات تداول المطلعين بشكل دوري، وتعيين ضابط امتثال يرفع تقاريره مباشرة للمجلس. كما فرضت غرامات تصل إلى 500 ألف ريال على المجالس التي لا تراجع تقارير الحوكمة دورياً.

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • إثبات وجود سياسات داخلية وقت وقوع المخالفة، وأن وظيفته لم تكن تشمل مراجعتها الدورية
  • الدفع بأن التحقق من أدوات الحوكمة كان من اختصاص لجنة الحوكمة وليس كامل المجلس
  • تقديم ما يثبت أنه اقترح مسبقاً تحديث السياسات، لكن لم يُعتمد اقتراحه
  • نفي العلم بوجود خلل تنظيمي وقت ارتكاب المخالفة محل التحقيق
  • إثبات أنه اعتمد على تقارير الامتثال أو المراجعة التي لم تُشر لأي إخلال

الفصل الثالث: منظومة الحوكمة الداخلية: عندما تتحول الورقة إلى عبء نظامي

الفصل بين الحوكمة الورقية والامتثال الفعلي داخل الشركة

رغم أن غالبية الشركات المدرجة في السوق المالية السعودية تعتمد أدلة حوكمة داخلية موقعة ومعتمدة، إلا أن تطبيق هذه الأدلة لا يتجاوز غالباً حيز الأوراق الرسمية المرفقة بالإفصاحات الدورية. تتجلى هذه الإشكالية في حالات متعددة تم فيها اكتشاف مخالفات جوهرية رغم وجود دليل حوكمة، مما يشير إلى أن المشكلة لا تكمن في صياغة الوثائق، بل في غياب التطبيق الفعلي والرقابة على الالتزام.

مثال واقعي: في قضية شركة اتصالات سعودية معروفة عام 2014، تبيّن لاحقاً أن الشركة كانت تملك سياسات مكتوبة للحوكمة والتدقيق، لكنها لم تُفعَّل فعلياً، مما أدى إلى تسجيل خسائر غير مبررة، وتم تحميل المسؤولية لأعضاء مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية، وأحيلت المخالفات إلى لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية.

المصدر: قرار لجنة الفصل رقم (1746/ل/د/2017) وتقرير هيئة السوق المالية السنوي 2015

غياب الضوابط الكافية للتحقق من أدوات الحوكمة الداخلية

تعتمد فاعلية الحوكمة على وجود ضوابط واضحة تُطبّق فعلياً لا صورياً، ومن أبرز صور القصور النظامي عدم وجود آلية لتقييم الأداء الداخلي للجان المراجعة أو لجان الحوكمة، وعدم وضع مؤشرات قياس لتقييم تنفيذ السياسات المعتمدة.

مشكلة نظامية: كثير من الشركات تُدرج سياسة “الإفصاح المسؤول” و”تداول المطلعين” ضمن لوائحها، ولكن لا تراقب فعلياً التداولات الدورية للمسؤولين. في عام 2021، رُصدت تداولات مشبوهة مرتبطة بعضو مجلس إدارة في إحدى الشركات المدرجة دون أن يتم تسجيلها ضمن الإفصاحات الدورية، ما أدى إلى تحقيق شامل لاحقاً من هيئة السوق المالية.

المصدر: بيان هيئة السوق المالية الصادر بتاريخ 30/9/2021 بشأن المخالفات في الإفصاح

تهميش لجان الامتثال وتجاهل دور الإدارات القانونية

يُفترض بلجان الامتثال أن تكون صمام الأمان القانوني للشركة، إلا أن الواقع يكشف أن كثيراً من الشركات تتعامل مع هذه اللجان كإجراء صوري. ويظهر ذلك جلياً في عدم تمكين اللجان من الوصول إلى معلومات حرجة أو حجب الوثائق القانونية عنها، ما يضعف قدرتها على اكتشاف المخالفات في وقت مبكر.

حالة عملية: في قضية ت.د المتعلقة بتسريب معلومة جوهرية تخص شركة أرامكو عام 2022، اتضح من التحقيقات أن لجنة الامتثال لم تكن على علم بالمراسلات التي تضمنت المعلومة المسرّبة، ما يعكس ضعف التواصل بين اللجنة والإدارة العليا.

المصدر: تحقيق هيئة السوق المالية السعودية، 2022 (وفق ما ورد في تقارير إخبارية موثقة)

تقارير التدقيق الداخلي كدليل على القصور بدل الحماية

الغاية من تقارير التدقيق الداخلي هي كشف الفجوات في الأنظمة والضوابط الداخلية، لكنها تتحول أحياناً إلى وثائق إدانة مؤجلة، إذا لم يتم التعامل مع نتائجها بجدية. حيث تكتفي بعض الشركات بإيداع التقارير ضمن أرشيف الشركة دون مناقشتها في مجلس الإدارة أو اتخاذ قرارات تصحيحية.

مثال واقعي: في قضية شركة “أ.ق” رُصدت مخالفات جوهرية في تقرير التدقيق الداخلي لعام 2020، ولكن لم يتخذ المجلس التنفيذي أي إجراء. وعند فحص الملف لاحقاً تبين أن التقرير لم يُناقش مطلقاً في اجتماعات المجلس، مما أدى إلى تحميل الإدارة التنفيذية والمجلس معاً المسؤولية عن الإهمال.

المصدر: إعلان هيئة السوق المالية عن فرض غرامات على الشركة، منشور في موقع “تداول”، مارس 2021

الحاجة لإعادة بناء مفهوم المتابعة والرقابة الفعلية

الرقابة الفعالة لا تتحقق بتكرار مفردات “الشفافية” و”الامتثال”، بل بتكوين بيئة تنظيمية داخلية قائمة على الإبلاغ الآمن، والمراجعة المستقلة، والمساءلة المستمرة. يتطلب ذلك تمكين اللجان الداخلية، والتفاعل مع نتائج المراجعة، وتطوير آليات تصعيد للمخالفات بدل إخفائها.

الحل النظامي المقترح:

  • إلزام الشركات بتقارير تقييم نصف سنوية حول فاعلية الحوكمة من جهة خارجية مستقلة
  • توسيع صلاحيات لجنة الامتثال لتشمل التحقيقات الداخلية مع التنفيذيين
  • وضع نظام تصعيد داخلي للمخالفات مع ضمان الحماية القانونية للمبلّغين

مرجع تنظيمي: المادة (10) من “دليل الحوكمة الصادر عن هيئة السوق المالية”، والمادة (41) من “اللائحة التنفيذية لحوكمة الشركات” المحدثة 2023

الفصل الرابع: كبار المستثمرين والمساهمين المؤثرين: بين الحماية القانونية والمساءلة الفنية

رغم ما يتمتع به كبار المستثمرين والمساهمين المؤثرين من حماية نظامية واستحقاق طبيعي في التأثير على مسار الشركات المساهمة، إلا أن موقعهم الحساس يجعلهم أيضاً محلّ مساءلة دقيقة متى ما تحوّل نفوذهم إلى وسيلة للتلاعب، أو مصدر لمعلومات غير عادلة، أو ستار لمصالح غير معلنة. هذا الفصل يتناول أبرز التجاوزات النظامية التي قد تصدر عن هذه الفئة، ويستعرض أبرز التحديات القانونية المصاحبة لها.

المشكلة الأولى: التلاعب في السوق عبر التداول

الوصف: أوامر وهمية أو متناغمة بين محافظ متعددة – الاعتماد على وسيط دون أن يوضح صفته التنفيذية

يُعدّ التلاعب في السوق أحد أبرز صور المخالفات التي تقع فيها فئة كبار المستثمرين، خصوصاً حين يتم تنفيذ أوامر بيع وشراء لا يقصد بها نقل الملكية فعلياً، بل خلق انطباع زائف عن العرض والطلب أو توجيه السوق بطريقة مصطنعة. وتتجلّى هذه الممارسات في:

  • إدخال أوامر وهمية، ثم سحبها قبل التنفيذ بهدف رفع السعر أو خفضه
  • تنسيق تداولات بين عدة محافظ استثمارية مملوكة لنفس الشخص أو لأشخاص مرتبطين به، بما يؤدي إلى تداولات شكلية تُضلل المستثمرين الآخرين
  • اعتماد كبار المستثمرين على وسطاء ماليين دون توضيح العلاقة أو تحديد ما إذا كان الوسيط يتصرّف بناءً على تعليمات من العميل أو بتفويض واسع الصلاحيات

قضية التلاعب في أسهم شركة ك.ي.ق وشركة أ.م.ق – أحد أكبر اختراقات نظام السوق المالية

ملخص القضية:

قامت مجموعة من المستثمرين المرتبطين عائلياً – يتقدمهم ع.ب وأبناؤه – بالتداول بشكل منسق على أسهم شركتين مدرجتين خلال عام 2020، من خلال:

  • تنفيذ صفقات خاصة متزامنة
  • تحويلات داخل المحافظ العائلية (بما فيها محافظ أبناء قُصّر)
  • إدخال أوامر شراء وبيع وهمية في مزاد الإغلاق
  • الامتناع المتعمد عن الإفصاح عند تجاوز نسب التملك النظامية (5%)
  • التخارج في توقيت دقيق بعد رفع السعر اصطناعياً

وقد نتج عن هذه الأفعال أرباح غير مشروعة تجاوزت 292.8 مليون ريال، ما أدى إلى إصدار غرامات مالية بقيمة 9.6 مليون ريال، وإيقاع الحجز التحفظي على جميع ممتلكاتهم.

التحليل القانوني والإشكاليات النظامية:

  1. التلاعب المنسق في السعر باستخدام الصفقات الخاصة استخدم المدانون الصفقات الخاصة لتحريك كميات ضخمة بين المحافظ العائلية في توقيتات محددة تسبق أحداثاً جوهرية (كاجتماعات الجمعيات أو إعلان الزيادة في رأس المال). هذا السلوك يُعد مخالفة صريحة للمادة (49) من نظام السوق المالية، ويُصنف كـ “تلاعب أو تضليل”. النقد: النظام لا يمنع الصفقات الخاصة بذاتها، لكن غياب قيود رقابية أو إشراف وقتي فوري جعل منها أداة مثالية لتمرير صفقات مشبوهة بين الأطراف ذات العلاقة، خاصة عند استخدام القصّر كغطاء إضافي.
  2. استغلال مزاد الإغلاق لرفع السعر اصطناعياً تكررت محاولات رفع سعر السهم في اليوم المقرر فيه تحديد سعر طرح حقوق الأولوية، وهو تلاعب مباشر بسعر الإغلاق، ويتعارض مع مبدأ السوق العادل وحق جميع المساهمين في الحصول على تقييم حقيقي للسهم. النقد: لا توجد ضوابط كافية على استخدام الأوامر في مزاد الإغلاق، كما لا تُفعّل خاصية “تجميد أوامر” إذا كانت تشكل نمطاً متكرراً للتلاعب.
  3. إخفاء نسب التملك الجماعي بلغت نسبة التملك العائلي في شركة ك-ي 24% وفي أ-م 27% دون إفصاح، رغم صلة القرابة ووجود نية واضحة للتصرف كـ “مجموعة واحدة”. وهذا يعد انتهاكاً صريحاً للفقرة المتعلقة بالإفصاح عند تجاوز 5% من أسهم ذات حقوق تصويت. النقد: هناك ضعف في نظام تتبع الملكية الجماعية أو المرتبطة بعلاقات عائلية، خصوصاً مع اعتماد السوق على الإفصاح الطوعي، بدلاً من فرض الكشف الشامل عن الأطراف المرتبطة.
  4. استغلال أبناء القصّر في التحايل تمت الاستعانة بمحافظ استثمارية تعود إلى أبناء غير بالغين لنقل الأسهم وتضليل الرقابة. هذه الحيلة تمنح مظهراً زائفاً بالتوزيع بينما تحتفظ السيطرة ضمن ذات المجموعة. النقد: النظام لم يفرض حتى الآن قيوداً واضحة أو تدقيقاً خاصاً على المحافظ التي يديرها أولياء الأمور نيابة عن القصّر، مما يجعلها ثغرة خطيرة في هيكل الحوكمة.

الحلول النظامية المقترحة:

  1. إعادة تعريف “المجموعة المرتبطة” بنطاق أوسع ينبغي على الجهة المختصة والمسؤولين تعديل أنظمة الإفصاح لتشمل أي مجموعة تتصرف بشكل منسق أو ترتبط بصلات قرابة من الدرجة الأولى أو الثانية، حتى وإن لم تكن هناك شركة قانونية تجمعهم
  2. تشديد الرقابة على الصفقات الخاصة والمزاد يجب فرض متطلبات إفصاح فوري على الصفقات الخاصة التي تتجاوز حجماً معيناً، وتجميد أي أوامر في مزاد الإغلاق تظهر نمطاً تكرارياً غير مبرر
  3. إعادة تقييم دور “محافظ القصّر” تحديث نظام السوق ليشمل متطلبات توثيق خاصة لأي تداولات تتم عبر محافظ قُصّر، مع إلزام الشركات الاستثمارية بالإفصاح إذا كانت تلك المحافظ تحت وصاية أطراف ذات مصلحة
  4. تفعيل آلية الإفصاح الاستباقي ينبغي ألا يعتمد النظام فقط على الإفصاح بعد وقوع الحدث، بل يُفعّل نظام مراقبة آلي يربط بين التملك والمصالح المتبادلة عبر المحافظ، لتحديد التجاوزات قبل أن تتحقق مكاسب غير مشروعة

المرجع النظامي: هيئة السوق المالية – رقم 3088/ل.س/2023م

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • إثبات أن أوامر البيع والشراء تمت بناءً على تحليل مالي مستقل أو نصيحة استثمارية من مرخص له، وليس بهدف التأثير في السعر
  • تقديم ما يُثبت أن المحافظ متعددة، لكن إدارتها كانت مفوّضة لجهات مستقلة بدون تنسيق أو توجيه
  • نفي العلاقة المباشرة مع الوسيط (broker) أو إثبات أن دوره كان تنفيذياً بحتاً، دون علم المستثمر بتفاصيل تنفيذ الأوامر
  • الدفاع بأن النمط الظاهري للتداول لا يُثبت القصد، خاصة إن لم يتحقق منه ربح فعلي أو ضرر للغير
  • إبراز أن الإفصاحات المطلوبة تمت خلال المدد النظامية، أو أن نسبة التملك لم تتجاوز الحد النظامي

المشكلة الثانية: التداول مبكراً استناداً إلى معلومات داخلية

الوصف: استمرار التداول عند احتمال جمع معلومات جوهرية – الاستفادة غير المشروعة من قرارات شركة لم تُعلن بعد

تُعدّ المعلومات الجوهرية غير المعلنة مادة شديدة الحساسية في سوق المال، حيث يحظر نظام السوق المالية على أي شخص مطلع استغلال هذه المعلومات في عمليات التداول، أو إفشائها للغير. وفي حال كان المستثمر يمتلك تمثيلاً في مجلس الإدارة أو لجنة استراتيجية أو لديه وصول للمعلومات التشغيلية، فإن عليه التوقف عن التداول حالما يصبح هناك احتمال معقول لامتلاكه معلومات جوهرية لم تُعلن بعد.

  • استمرار التداول رغم المعرفة بمعلومات مؤثرة غير معلنة، مثل عقود ضخمة أو نتائج مالية مفاجئة
  • شراء الأسهم قبل إعلان قرارات مؤثرة مثل توزيعات الأرباح أو صفقات الاندماج أو رفع رأس المال

قضية واقعية: في عام 2022، أدين مساهم مؤثر في إحدى الشركات العقارية، بعد أن ثبتت استفادته من قرار مجلس إدارة لم يُعلن بعد بشأن صفقة بيع أصول بمليارات الريالات، حيث قام بالشراء من السوق قبل الإفصاح العام، محققاً أرباحاً غير عادلة.

المرجع النظامي:

  • المادة (50) من نظام السوق المالية
  • المادة (3) من لائحة سلوكيات السوق

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • تقديم مستندات توضح أن الصفقة نُفذت ضمن جدول استثماري معتاد أو برنامج إعادة هيكلة محفظة دوري
  • إثبات أن المعلومة الجوهرية لم تكن متاحة له فعلياً وقت التداول، أو أنه لم يحضر الاجتماعات أو اللجان ذات العلاقة
  • الدفع بأن قرار الشركة (الذي يُقال إنه لم يُفصح عنه) لم يكن مكتمل الصياغة أو الموافقة لحظة التنفيذ
  • إرفاق توثيق يوضح أن العملية الاستثمارية تمت من خلال مدير محفظة خارجي مستقل، دون تدخل مباشر
  • توضيح أن المعلومة “المزعومة” كانت متداولة في السوق أو الصحف، وبالتالي لا تدخل ضمن المعلومات الداخلية المحظورة

المشكلة الثالثة: عدم وضوح العلاقة مع مدير المحفظة

الوصف: ضعف أو غياب الوثائق التعاقدية – عدم التدقيق في سياسات إدارة المحافظ والإفصاح بشأنها

في حال استعانة كبار المستثمرين بمديري محافظ لإدارة أموالهم، فإن المسؤولية لا تنتقل بالكامل إلى المدير؛ إذ إن المستثمر يظل مسؤولاً متى ما كانت العلاقة بين الطرفين غير موثقة أو غير واضحة. ومن أبرز الإشكاليات القانونية:

  • غياب عقود الإدارة أو عدم تحديد صلاحيات مدير المحفظة
  • عدم مراجعة سياسات الإفصاح أو الإبلاغ الخاصة بالعمليات المنفذة
  • استغلال مدير المحفظة لعلاقته بالمستثمر لتحقيق مصلحة شخصية أو تنفيذ تداولات تنطوي على تضليل للسوق

قضية واقعية: في 2020، تبين أن أحد كبار المستثمرين اعتمد على طرف ثالث كمدير لمحفظته دون توثيق العلاقة رسمياً، وقام المدير بتنفيذ أوامر تداول متكررة بين المحافظ التابعة له ولأقارب المستثمر، مما اعتُبر تلاعباً منسقاً في السوق، وأدين الطرفان.

المرجع النظامي:

  • المادة (31) من لائحة الأشخاص المرخص لهم
  • المادة (5) من لائحة سلوكيات السوق

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • تقديم عقد إداري يوضح أن مدير المحفظة يتحمل كامل المسؤولية عن قرارات التداول، مع إثبات عدم تدخل المستثمر في التفاصيل اليومية
  • إثبات أن العلاقة كانت قائمة على تفويض كامل (Discretionary Management)، ما ينفي التوجيه المباشر
  • الدفع بأن التداولات التي نُفذت كانت ضمن استراتيجية معلنة سابقاً، وأن نتائجها لم تختلف عن الأداء العام للسوق
  • تقديم ما يُثبت أن الجهة المديرة خاضعة لرقابة الهيئة أو مرخصة، وبالتالي مسؤوليتها نظامية أمام الهيئة
  • توضيح أن العلاقة كانت شفافة، ولكن لم تُوثق في ذلك الوقت لأسباب إدارية، دون وجود نية للإخفاء

المشكلة الرابعة: تضارب مصالح في ممتلكات استراتيجية

الوصف: الاستثمار في شركات تتعامل مع شركاء شخصيين – عدم تسجيل التغييرات في ملكية حقوق التصويت أو السياسات

ينشأ تضارب المصالح حين يمتلك كبار المستثمرين حصصاً استراتيجية في شركات تتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر مع أطراف ذات علاقة شخصية أو تجارية بهم، دون إفصاح أو رقابة، مما يُعرض السوق للخطر.

  • الاستثمار في شركة تزود شركة أخرى يملكها المساهم بمنتجات أو خدمات
  • امتلاك حصص تؤثر على القرارات دون تحديث الإفصاحات
  • عدم إخطار السوق بأي تغيير في نسبة التملك أو حقوق التصويت أو التوجهات السياسية في التصويت داخل الجمعيات العامة

قضية واقعية: في عام 2023، أُدين مستثمر استراتيجي بعد ثبوت تملكه لحصة في شركة تقنية تعمل كمزود رئيسي لخدمات شركة أخرى يملكها شقيقه، دون الإفصاح عن هذه العلاقة. كما لم يقم بالإفصاح عن تغييرات جوهرية في نسبة تملكه بعد اتفاق سري لشراء أسهم من أطراف متعددة.

المرجع النظامي:

  • المادة (45) من قواعد طرح الأوراق المالية والالتزامات المستمرة
  • لائحة حوكمة الشركات، الباب الثالث – الإفصاح والشفافية

الحلول النظامية المقترحة لهذه المشكلة:

  • إثبات أن التملك في الشركة الأخرى تم بصفته كمستثمر مالي فقط، دون وجود نية أو دور في توجيه القرارات
  • تقديم توثيق يثبت أن العلاقة العائلية أو التجارية لم تؤثر على الصفقات أو قرارات التصويت
  • الدفع بأن التغيير في نسبة التملك لم يتجاوز الحدود النظامية، أو أن الإخطار تم في المدة القانونية عند العلم
  • إثبات أن الشركة المقابلة لم تكن في وضع تعاقد فعلي مع الجهة ذات الصلة عند إتمام التملك
  • إبراز أن المستثمر لم يمارس أي ضغط أو تأثير على الإدارة التشغيلية، بل حافظ على استقلالية الشركات محل التداخل

الفصل الخامس: فجوة التوازن بين الجهات الرقابية والمسؤولين محل المساءلة

في بيئة السوق المالية السعودية، تبرز فجوة غير معلنة لكنها محسوسة بين الجهات الرقابية من جهة، وبين المسؤولين محل المساءلة من جهة أخرى، وتحديداً التنفيذيين وأعضاء مجالس الإدارة والمستثمرين ذوي التأثير. هذه الفجوة لا تتعلق باختلاف الأدوار أو تضارب الاختصاص، وإنما بفجوة واقعية بين التفسير النظامي المجرد، والواقع التشغيلي المعقد الذي تعيشه الشركات المدرجة.

معضلة الإثبات في قضايا السوق: بين التكييف الفني والواقع التنفيذي

يعاني النظام من محدودية أدوات الإثبات عندما يتعلق الأمر بتكييف المخالفات الفنية، خصوصاً تلك المتعلقة بالإفصاحات المتأخرة أو التداولات السابقة على الإعلانات الجوهرية. فعلى سبيل المثال، نجد أن العديد من القرارات الصادرة عن هيئة السوق المالية اكتفت بمراسلات بريدية داخلية أو محاضر غير موقعة لإثبات “العلم المفترض”، دون التحقق مما إذا كان ذلك العلم قد تحقق فعلاً لدى جميع الأطراف المعنية. وهذا ما يطرح تساؤلاً قانونياً حرجاً: هل تُبنى المسؤولية على العلم الواقعي، أم على العلم المفترض الذي قد لا ينعكس في التصرف الفعلي للمسؤول؟

ضعف الدفاع النظامي داخل الكيانات محل الرقابة

كثير من الشركات المدرجة لا تملك وحدة قانونية داخلية مختصة بالدفاع المبكر في قضايا السوق، ولا تتوفر لديها آلية مؤسسية لرصد الإنذارات النظامية أو التفاعل مع إشعارات المخالفة بشكل احترافي. وهذا ما يجعل الردود النظامية على الملاحظات الرقابية تتأخر أو تأتي بشكل غير دقيق، مما يُفسر أحياناً على أنه إقرار ضمني بالمخالفة، رغم أن الواقع قد يكون مختلفاً تماماً.

غياب إطار زمني واضح للرد وتقديم الدفاع

رغم أن الأنظمة تُجيز للجهات الرقابية مخاطبة الشركات لإيضاح الموقف، إلا أن الإشكالية تكمن في عدم وجود نصوص ملزمة تحدد أجلاً زمنياً دقيقاً للجهة الرقابية نفسها للرد على الردود المقدمة، أو لإبلاغ الأطراف بالقرارات النهائية. هذا التأخير يخلق بيئة رمادية تُربك المتهم وتحد من فرصه في تقديم دفاع مستند إلى وقائع حاضرة، وليس بعد أن تكون الذاكرة المؤسسية قد بردت أو تغيرت.

التفاوت في درجات التفاعل وفرص العدالة

المراجعة لقرارات الهيئة خلال الخمس سنوات الماضية تُظهر أن الشركات الأكبر تميل إلى تقديم دفاعات أكثر تنظيماً، مما يؤثر – ولو دون قصد – على مستوى الإنصاف بين الكيانات. فالشركات الصغيرة، رغم حسن نيتها، قد تفتقر للموارد التي تسمح بتشكيل فريق دفاع محترف، فتُدان بالحد الأعلى من المخالفة دون أن تُ

أكتب تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *