التحرش في بيئة العمل
المقدمة
عندما تُواجه بتهمة التحرش داخل بيئة العمل، فإنك لا تُواجه مجرد بلاغ عابر أو مساءلة مؤقتة، بل تدخل إلى منطقة قانونية معقدة، تتصل بالكرامة والسلوك الوظيفي والنية الداخلية، وقد تمتد آثارها إلى السجل الجنائي والسمعة الشخصية والمستقبل المهني. والخطورة لا تكمن دائماً في أن المتهم ارتكب فعلاً مُحرّماً، بل في أن تصرفه قد يُساء فهمه، أو يُفسَّر خارج سياقه، أو يُعاد توصيفه ليأخذ شكل جريمة، رغم خلوّه من النية الجريمة، وهنا تظهر أهمية المعرفة القانونية الدقيقة، وفهم النظام، وتمييز الخط الفاصل بين الخطأ غير المقصود وبين الفعل المُجرّم. هذه المقالة موجّهة لكل من وجد نفسه – أو يخشى أن يجد نفسه – متهماً بالتحرش في بيئة العمل، وتُقدَّم له كدليل قانوني يُنير له الطريق، ما الذي يشكّل الجريمة، ما شروط الإدانة، ما أبرز الدفوع، وماذا تقول السوابق القضائية، وهي جزء من سلسلة مواد قانونية تصدر عن شركة عبدالرحمن بن ناصر السبيعي للمحاماة والاستشارات القانونية، في إطار سعيها لتقديم محتوى حقوقي يوازن بين الواقع القضائي والنظامي، ويخاطب المتهم بلغة علمية مبسطة تعينه على الفهم والدفاع. هدفنا ليس تبرئة أي شخص دون وجه حق، بل حماية البراءة من أن تُمس بسوء التأويل، وندعو في هذا السياق كل من وُجهت إليه تهمة من هذا النوع أن يُسند أمره لمحامٍ مختص، يتولى دراسة الوقائع وتوصيفها، وصياغة مذكرة قانونية محكمة تبين دفوعه على أسس نظامية رصينة، فالفرق في قضايا كهذه غالباً ما يصنعه عمق المرافعة، ودقة التعبير، وقوة التحليل.
أولاً: هل ما قمت به يُعد تحرشاً؟
وفقاً للمادة الأولى من نظام مكافحة جريمة التحرش الصادر بالمرسوم الملكي رقم )م96/(، فإن التحرش يُعرف بأنه: “كل قول أو فعل أو إشارة ذات مدلول جنسي تصدر من شخص تجاه أي شخص آخر، تمس جسده أو عرضه أو تخدش حياءه، بأي وسيلة كانت، بما في ذلك وسائل التقنية الحديثة،” وعليه، فإن السلوك لا يُعد تحرشاً إلا إذا كان له مدلول جنسي صريح، أو أثر خدشي واضح، وهو ما لا ينطبق على كل حديث أو تعامل مهني، حتى لو فُهم خطأ. مثال تطبيقي: إذا قلت لزميلتك “عملك ممتاز وتستحقين التقدير”، فهذا لا يُعد تحرشاً، إلا إذا اقترن بنظرات أو إيحاءات غير لائقة تدل على نية منحرفة. ولذلك، من الخطأ أن تظن أن كل شكوى أو بلاغ تعني بالضرورة أنك مدان.
ثانياً: حتى تُدان… ما الذي يجب أن يثبُت؟
الإدانة في قضايا التحرش لا تقوم على الشعور أو الانطباع، بل تُبنى على أركان نظامية واضحة: .1 الركن الشرعي: أن يكون الفعل منصوصاً عليه في النظام كمحرّم، .2 الركن المادي: أن يكون هناك قول أو فعل أو إشارة ذات مدلول جنسي. .3 .4 الركن المعنوي )الأهم(: أن يكون هناك قصد جنسي فعلي، لا مجرد لبس أو تفاعل اجتماعي معتاد، وقد استقرت المحكمة العليا في عدد من المبادئ على أن القصد الجنائي لا يُفترض، بل يجب أن يُثبت بدليل صريح أو قرينة قوية. بمعنى آخر، لا يكفي أن يشعر الطرف الآخر بالانزعاج، بل يجب أن تُثبت الجهات المختصة أنك تعمدت التحرش بقصد جنسي.
ثالثاً: كيف تدافع عن نفسك؟ أقوى الدفوع القانونية في قضايا التحرش
.1 دفع انتفاء القصد الجنسي، إذا كان السلوك الذي صدر عنك في سياق مهني واضح، كتعليق على أداء وظيفي، أو توجيه إداري، دون دلالة جنسية، فإن هذا من أقوى الدفوع. .2 الدفع بسوء الفهم، بعض العبارات أو الإيماءات قد تُفسّر خطأ، لكن لا يُدان بها المتهم ما لم تكن صريحة في مدلولها الجنسي، وهذا الدفع مفيد في الحالات التي تعتمد فقط على الانطباعات. .3 الدفع بالكيدية، إذا كانت هناك خصومة سابقة أو توترات وظيفية، أو تم تقديم البلاغ بعد خلاف إداري، يمكن الدفع بأن البلاغ كيدي، خاصة إن وُجد ما يعزز ذلك من محادثات أو شهود. .4 الدفع بتناقض الأقوال أو ضعف الأدلة، إذا اختلفت رواية المدعي أو المدعية بين التحقيق والمحكمة، أو إذا لم يُقدَّم تسجيل أو شهود أو قرائن مادية، فإن الدعوى تُصبح قابلة للرد. .5 التمسك بمبدأ الشك يُفسَّر لصالح المتهم، وهو مبدأ قضائي مستقر، مفاده أن الشك في الأدلة لا يُزيل البراءة، وأن الأصل هو عدم الإدانة.
رابعاً: من التحقيق إلى المحكمة… كيف تتصرف؟
لا تتحدث إلا بحضور محامٍ، أو بعد استشارة دقيقة. دوّن الوقائع كما حدثت فعلاً، واذكر السياق الزمني والمكاني بالتفصيل. لا ينكر المتهم تلقائياً، بل يفهم التوصيف النظامي أولاً، ثم يُحدد موقفه القانوني استناداً إلى الوقائع والأدلة. إذا صدر بحقك حكم ابتدائي، فلا يعني ذلك نهاية الطريق، إذ يحق لك استئناف الحكم، ثم التقدم بطلب النقض عند توافر الشروط النظامية.
خامساً: أمثلة من القضاء السعودي
حكم بالبراءة صدر عن المحكمة الجزائية بالرياض لموظف اتُّهم بالتحرش اللفظي، بعد أن ثبت أن عبارته كانت في سياق شرح وظيفي ولم تحمل مدلولاً جنسياً. نقض لمحكمة الاستئناف لحكم إدانة، لعدم توافر القصد الجنسي، حيث كانت الإشارة محل البلاغ غامضة، ولم يُثبت القصد. إن هذه الأمثلة تُثبت أن الإدانة في النظام لا تُبنى على الانطباعات الشخصية، وإنما على أدلة واضحة وقاطعة.
الخاتمة
أن تُتَّهَم بالتحرش في بيئة العمل لا يعني بالضرورة أنك مدان؛ فالتحرش جريمة خطيرة بلا شك، لكن العدالة تقتضي ألا يُحاسَب عليها إلا من ثبتت بحقه أركان الجريمة بيقينٍ لا يقبل الشك. افهم التهمة جيداً، وواجهها بالقانون لا بالخوف، واطلب الدعم القانوني منذ البداية، فالدفاع المتماسك قد يكون الفاصل بين الإدانة والبراءة. لقد جاء النظام السعودي في مكافحة التحرش متوازناً، يحمي الضحية، ويكفل في الوقت ذاته حقوق المتهم، ويمنع أن يتحول الظن إلى وسيلة للإدانة أو العقوبة.

أكتب تعليقا